Description
لقد كانت لي رغبة في تصفح » التحرير والتنوير « هذا التفسير الضخم الذي يقع في ثلاثين جزءا، ولم أسمع بأن هناك تفسيرا اسمه » التحرير والتنوير « إلا في سنة 1985 منذ ذلك الزمن وأنا أتطلع إلى معرفة ما فيه وأتكشف إلى مطالعة طريقته في التفسير بعد أن سطعت في الآفاق كتابات الشهيد سيد قطب وتفسيره ” في ظلال القرآن ” وحالت السياسة دون وقوفي على تراثنا العلمي والثقافي والحضاري لرجالات تونس.
لم أجد منذ ذلك الوقت من متسع للاطلاع على هذا التفسير وتذوق ألفاظه وكلماته، بعد أن سمعت عنه ورأيته عند أبي الذي اقتناه ولم يكمل قراءته وهو الذي عاش مع مؤلفه في جنبات جامع الزيتونة وتخرج منه.
رغبة شديدة ملكتني في اقتفاء آثار “جامع الزيتونة ” بعد أن طمست معالمه ومسحت آثاره ولم يبق منه سوى الحمَام المغرد – ويا ليتنا نفهم تغريده – وما أحسب إلا أنه يشكو وينعى للأجيال القادمة ما أصاب هذه المنارة المشرقة وما لحق بها.
أكتب هذه الكلمات ولم يكن لي من نصيب من هذا الجامع العريق سوى ركعتين أديتهما هربا إذ فررت منهم لما خفتهم، وشاء القدر أن أكفكف دموعي وأغسل آثار تلك الغازات التي علقت بي من أعوان “الخليفة” الذي يجلس في القصر بماء الجامع الذي ساقني القدر إليه و”الميضة”[1] التي تتابع واغتسل من ينابيعها أبطال وقادة وجيوش تعاقبوا على هذا المكان ليفتحوا جنوب إيطاليا ويرسموا على صفحات التاريخ أروع البطولات وأزكي أنواع الانتصارات، فكانوا قادة فاتحين وعلماء متفقهين وحكاما عادلين، ولولا قبورهم التي تشهد لاجترأ هؤلاء المتربصون على أن يقولوا قولتهم اللعينة: متى كانت تونس عربية أو إسلامية ؟ حتى تطالبونا بفتح المساجد وعلى رأسهم جامع الزيتونة! بهذه الكلمات أفتتح مقدمتي هذه ليكون للقارئ وقع في نفسه ومبرر لاختياري لهذا الموضوع الذي قدم لي من طرف المعهد -ضمن قائمة تحتوي على ثمانية عشرة عنوانا- وهو : “تقديم كتاب التحرير والتنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور مع ترجمة لمؤلفه” .
اخترت هذا الموضوع لقلة ما وجدت وما سمعت عن هذا العالِم الفذ والبحر الواسع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في هذه البلاد، ولئن كتب عنه الكثير في تونس وتحديدا في الجامعة الزيتونية إبان إغلاق جامع الزيتونة، إلا أن ذلك يبقى رهينة من ينقله إلى المكتبات والجامعات خارج تونس في ظل الطلاق البائن الذي حصل بين حكام البلاد والعلم الشرعي والتراث الزيتوني والفكر العربي والإسلامي بصفة عامة. كما أني تصفحت » التحرير والتنوير « ولم أجد ما يعرِّف بالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور فأردت أن تكون هذه المحاولة البسيطة مادة لتقديم هذا الكتاب لمن أراد أن يعرف عن هذا العالم الفذ شيئا عن آراءه وإصلاحاته.
وسلطت الضوء في بحثي على الحقبة التاريخية والظروف السياسية والفكرية والاجتماعية التي نشأ فيها الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وكتب فيها تفسيره لربط الحركة الإسلامية المعاصرة بالحركة الإصلاحية الأم – منذ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني – ومد جسور التواصل الفكري والأدبي والسياسي معها. لأنه لم يكن تفسيرا عاديا وإنما كان تعبيرة من صاحبه وشهادة حية على تلك الحقبة التاريخية التي وقفت فيها الأمة على مفترق طرق الخلافة الإسلامية المتساقطة والحقبة الاستعمارية الوارثة وما نتج عنها من دول “حديثة” حكمت كافة الأقطار الإسلامية، وهو كذلك رسالة إلى من يرث هذا العلم ويتداوله بين الناس.
ثم إني تصفحت كتب التفسير وعلوم القرآن فلم أجد لهذا التفسير » التحرير والتنوير « كبير اعتناء ولا اطلاع من طرف الكتاب والباحثين – عدى الكلية الأوروبية في بعض مراجعها – ما حملني على التعريف بهذا التفسير العصري والجامع لتراث الأمة من المأثور والمنقول والبلاغة والبيان وفي شتى العلوم. فإنك قليلا ما تجد التفاسير تجمع بين كل هذه المواصفات، وخاصة الجمع بين العصرية وعلوم اللغة العربية التي هي من كنوز تراثنا الأدبي والفكري وتتطلب من الاختصاص والتمكن في كل العلوم ما تتطلبه.
قسمت بحثي إلى ثلاثة أبواب، جعلت الأول تمهيدا تحدثت فيه عن تاريخ تونس وتعريفا بجامعها، والثاني تعريفا بمؤلف » التحرير والتنوير « ومناقبه وإصلاحاته وعصره، والثالث تناولت فيه تقديم كتاب » التحرير والتنوير « في مقدماته العشر التي صدّرها كتابه. لخصتها قدر المستطاع وما تسمح لي به الأمانة في نقل قواعده التي جعلها منهاجا وهديا لتفسيره.
أسأل الله أن أكون قد وفقت إلى ذلك حسب ما أوتيت من الفهم، كما نسأل الله أن يبوأ لتونس والعالم الإسلامي من يرجع للدين كرامته وللأمة مجدها وحضارتها بإعطاء قيمة للعلم الشرعي والعلماء، وأن يرفع عنا الغمة ويزيل عنا النقمة إنه نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سويسرا في
4 جوان 2001
الموافق لـ 12 3 1422
[1] من وضوء : وهو مكان مخصص للوضوء
Reviews
There are no reviews yet.